هدف السيسي قائد انقلاب 2013 لم يكن إغلاق ثغرات يمكن أن تعود منها الثورات والهبّات الجماهيرية بعد أن أفشلها ومزقها فحسب.
حيث أسس السيسي دكتاتورية تعسفية بمرتكزات ثبات وعمق قائمة على هيكل عسكري مهيمن تماما على الأوضاع بما يناقض سلطوية عهد مبارك الناعمة.
عدم الاستقرار يطل برأسه ويسقط مزاعم الاستقرار والاعتدال التي طالما تحجج بها المستبدون وويدلل على خطأ استمرار الغرب بضخ الأموال في نموذج فاشل.
الاستبداد لا نجح أخلاقيا ولا حفظ مصالح استراتيجية وستكون تهديدات وحدة الانفجار لدى نقص مياه النيل أكبر مما يتحمله عالم ستترنح أبوابه أمام هجرة غير مسبوقة.
ترسانة قوانين بـ”غثها ومعيبها” مررها “في جلسة واحدة” برلمان تمت هندسته بمعرفة أجهزة الأمن وهدف معلن لدعم دولة السيسي لا مراجعتها ومراقبتها ومساءلتها.
كما كشفت الفاجعة التي ينتظرها نهر النيل بعد أن أصبح سد النهضة الإثيوبي أمرا واقعا عن النتائج الوخيمة والكارثية للاستبداد الذي طالما تغنى الغربيون بقدرته على جلب الاستقرار، مع تجرئه المبالغ فيه على القمع، فلم يجلب إلا المعاناة والفقر والتهديد بالإبادة والموت.
كما أن الرئيس عبد الفتاح السيسي هدفه لم يكن إغلاق الثغرات التي يمكن من خلالها أن تعود الثورات أو الهبّات الجماهيرية–منظمة أو عشوائية–بعد أن أفشلها ومزقها فحسب.
لكنه أسس لدكتاتورية تعسفية بمرتكزات غاية في الثبات والعمق قائمة على هيكل عسكري صلد مهيمن تماما على كل الأوضاع بشكل يتناقض في المجمل مع السلطوية الناعمة في عهد مبارك.
وذلك بدعم وإمداد وتخطيط إقليمي ورعاية غربية، وصفر مشكلات خارجية، وباستثناءات غير مؤثرة.
الذي أستطيع أن أقوله إنه لولا مشكلة سد النهضة لما عانى نظام السيسي من أزمة وجودية حقيقية، وربما نجح مسعاه في تأسيس حكم عسكري عائلي ممتد على غرار الأسر الفرعونية الغابرة.
ومن ضمن المسارات المهمة التي أمّن بها الفرعون حكمه التسلطي وفرض من خلالها القدسية على مشيئته جانب التشريع، فقبل أن يجر قائد الجيش الأسبق المحكمة الدستورية من ثيابها طوعا ويورطها في أحداث 3 يوليو وظفها العسكر في صراعهم مع الثورة، لتحكم ببطلان برلمان 2012، كما كان عامان قضاهما السيسي وسلفه الرئيس عدلي منصور في الحكم بدون برلمان كافيين لإصدار وتمرير مئات القوانين، والتي وصلت إلى 433 قانونا حتى 20 نوفمبر 2015.
ترسانة القوانين هذه بـ”غثها ومعيبها” مررها البرلمان -الذي تمت هندسته بحراسة الأجهزة السيادية كهدف معلن لدعم دولة السيسي، لا مراجعتها ولا مراقبتها ولا مساءلتها- “في جلسة واحدة!”.
والواضح أن هذه القوانين لم تكن تهدف لاستعادة قواعد النظام السلطوي بقدر أنها كانت تمهد الأرض لصناعة الفرعون بالصورة البشعة التي بدا عليها في ما بعد، وتضع الأساس لدكتاتورية قمعية مروعة بشكل مستديم.
لم تعد القوانين في تلك الدولة شديدة المركزية أدوات سياسية لإدارة المجتمع، بل أصبحت سياطا لجلد كل فئاته، ومغارات وأقبية سوداء للترويع والتعذيب والاختفاءات القسرية والسجن المطول لسنوات، والغرامات الباهظة.
وباتت إستراتيجية النظام إطلاق موجة قمع واسعة النطاق ترتدي حلة قانونية وقضائية، وتسويغ سلوكياتها بسرديات تآمرية وشعبوية.
وسبق أن أكدت في تصريح لمجلة “ميديا بارت” الفرنسية في 26 يناير الماضي أن النظام استحدث نظاما قضائيا موازيا من أجل تقنين القمع الشديد “وأن القضاة الأكثر قمعية وانحيازا للنظام تم اختيارهم لتشكيل المحاكم الخاصة المكلفة رسميا بمكافحة الإرهاب، لكنها تهدف في الواقع إلى خنق النقد”.
وبحسب تقرير سابق لمنظمة “لجنة العدالة” Committee for Justice فإن الاستخدام الواسع والمنهجي للتعذيب المدمر لا يمكن أن يتم بمعزل عن توجيهات من رأس السلطة السياسية وتحت أعين الحكومة على نحو يضمن حماية الجناة من المساءلة، خاصة عندما يكون ضحايا التعذيب من المعارضين السياسيين.
والمحصلة أن تكتيكات الترويع والترهيب -التي استخدمت بدعم من التشريعات القانونية، ومعها وحشية الشرطة الممنهجة لحرمان المواطنين من حريات التعبير، والسرديات الشعبوية (دينية ووطنية) لرفع الجنرال الحاكم إلى مرتبة المُخلِّص، وإقرار المعاهدات دون رقيب أو حسيب- أغلقت الفضاء العام وقهرت الشعب وكممت صوته ومررت العديد من الاتفاقيات المخزية، منها التوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ في 2015 وكأن النهر بلا شعب.
وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه الشعب من برلمانه أن يتصدى لاتفاقية المبادئ التي ضيعت حقوقه في مياه النيل وينسحب منها كان نوابه يتحركون في مسار صناعة المشكلات وتصدير الأزمات عن طريق إقرار العديد من القوانين والتشريعات المثيرة للجدل، والذي كان أحدها تعديل قانون المحكمة الدستورية رقم 48 لسنة 1979 والذي يفرض حصانة شكلية ربما بنوع من البلطجة لصالح الدولة المصرية في مواجهة الخارج.
ويهدف إلى منح المحكمة حق الرقابة القضائية على دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية، وأحكام المحاكم وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة المصرية، والحكم بعدم الاعتداد بمثل هذه القرارات أو بالالتزامات المترتبة على تنفيذها.
ويستهدف التعديل قطع الطريق على أي حكم ضد مصر أو قرار ملزم لها بأداء مستحقات أو تعويضات مالية أو أدبية، أو الالتزام بنصوص معينة من معاهدات دولية، أو توقيع عقوبات تتطلب رفع الضرر الواقع على أشخاص أو أطراف أو جهات.
بعض المصادر تحدثت عن تخوف الحكومة من صدور أحكام وقرارات تنفيذية عن منظمات دولية ودول أجنبية على خلفية بعض الدعاوى القضائية المرفوعة ضد النظام وبعض قياداته بصفتهم وأشخاصهم في الوقت الحالي.